فصل: ذكر عصيان تكش على السلطان ملكشاه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر استيلاء عميد الدولة على الموصل

لما بلغ السلطان أن شرف الدولة انهزم وحصر بآمد لم يشك في أسره فخلع على عميد الدولة بن جهير وسيره في جيش كثيف إلى الموصل وكاتب أمراء التركمان بطاعته وسير معه من الأمراء آقسنقر قسيم الدولة جد ملوكنا أصحاب الموصل وهو الذي أقطعه السلطان بعد ذلك حلب‏.‏ وكان الأمير أرتق قد قصد السلطان فعاد صحبة عميد الدولة من الطريق‏.‏

فسار عميد الدولة حتى وصل إلى الموصل فأرسل إلى أهلها يشير عليهم بطاعة السلطان وترك عصيانه ففتحوا له البلد وسلموه إليه وسار السلطان بنفسه وعساكره إلى بلاد شرف الدولة ليملكها فأتاه الخبر بخروج أخيه تكش بخراسان على ما نذكره‏.‏

ورأى شرف الدولة قد خلص من الحصر فأرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة وهو مقابل الرحبة فأعطاه العهود والمواثيق وأحضره عند السلطان وهو بالبوازيج فخلع عليه آخر رجب وكانت أمواله قد ذهبت فاقترض ما خدم به وحمل للسلطان خيلًا رائقة من جملتها فرسه بشار وهو فرسه المشهور الذي نجا عليه من المعركة ومن آمد أيضًا وكان سابقًا لا يجارى فأمر السلطان بأن يسابق به الخيل فجاء سابقًا فقام السلطان قائمًا لما تداخله من العجب‏.‏

وأرسل الخليفة النقيب طرادًا الزينبي في لقاء شرف الدولة فلقيه بالموصل فزاد أمر شرف الدولة قوة وصالحه السلطان وأقره على بلاده وعاد إلى خراسان لحرب أخيه‏.‏

  ذكر عصيان تكش على السلطان ملكشاه

قد تقدم ذكره و ذكر مصالحته للسلطان فلما كان الآن ورأى بعد السلطان عنه عاود العصيان وكان أصحابه يؤثرون الاختلاط فحسنوا له مفارقة طاعة أخيه فأجابهم وسار معهم فملك مرو الروذ وغيرها إلى قلعة تقارب سرخس وهي لمسعود ابن الأمير ياخز وقد حصنها جهده فحصروه بها ولم يبق غير أخذها منه‏.‏

فاتفق أبو الفتوح الطوسي صاحب نظام الملك وهو بنيسابور وعميد خراسان وهو أبو علي على أن يكتب أبو الفتوح ملطفًا إلى مسعود بن ياخز وكان خط أبي الفتوح أشبه شيء بخط نظام الملك يقول فيه‏:‏ كتبت هذه الرقعة من الري يوم كذا ونحن سائرون من الغد نحوك فاحفظ القلعة ونحن نكبس العدو في ليلة كذا‏.‏

واستدعيا فيجًا يثقون به وأعطياه دنانير صالحة وقالا‏:‏ سر نحو مسعود فإذا وصلت إلى المكان الفلاني فأقم به ونم وأخف هذا الملطف في بعض حيطانه فستأخذك طلائع تكش فلا تعترف لهم حتى يضربوك فإذا فعلوا ذلك وبالغوا فأخرجه لهم وقل إنك فارقت السلطان بالري ولك منا الحباء والكرامة‏.‏

ففعل ذلك وجرى الأمر على ما وصفا وأحضر بين يدي تكش وضرب وعرض على القتل فأظهر الملطف وسلمه إليهم وأخبرهم أنه فارق السلطان ونظام الملك بالري في العساكر وهو سائر فلما وقفوا على الملطف وسمعوا كلام الرجل وساروا من وقتهم وتركوا خيامهم ودوابهم والقدور على النار فلم يصبروا على ما فيها وعادوا إلى قلعة ونج‏.‏

وكان هذا من الفرج العجيب‏.‏

فنزل مسعود وأخذ ما في المعسكر وورد السلطان إلى خراسان بعد ثلاثة أشهر ولولا هذا الفعل لنهب تكش إلى باب الري‏.‏

ولما وصل السلطان قصد تكش وأخذه وكان قد حلف له بالأيمان أنه لا يؤذيه ولا يناله منه مكروه فأفتاه بعض من حضر بأن يجعل الأمر إلى ولده أحمد ففعل ذلك فأمر أحمد بكحله فكحل وسجن‏.‏

في هذه السنة سار سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصروا وأعمالها من بلاد الروم إلى الشم فملك مدينة أنطاكية من أرض الشام وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة‏.‏

وسبب ملك سليمان المدينة أن صاحبها الفردوس الرومي كان قد سار عنها إلى بلاد الروم ورتب بها شحنة وكان الفردوس مسيئًا إلى أهلها وإلى جنده أيضًا حتى إنه حبس ابنه فاتفق ابنة والشحنة على تسليم البلد إلى سليمان بن قتلمش وكاتبوه يستدعونه فركب البحر في ثلاثمائة فارس وكثير من الرجالة وخرج منه وسار في جبال وعرة ومضايق شديدة حتى وصل إليها للموعد فنصب السلاليم باتفاق من الشحنة ومن معه وصعد السور واجتمع بالشحنة وأخذ البلد في شعبان فقاتله أهل البلد فهزمهم مرة بعد أخرى وقتل كثيرًا من أهلها ثم عفا عنهم وتسلم القلعة المعروفة بالقسيان وأخذ من الأموال ما يجاوز الإحصاء وأحسن إلى الرعية وعدل فيهم وأمرهم بعمارة ما خرب ومنع أصحابه من النزول في دورهم ومخالطتهم‏.‏

ولما ملك سليمان أنطاكية أرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره بذلك وينسب هذا الفتح إليه لأنه من أهله وممن يتولى طاعته فأظهر ملكشاه البشارة به وهنأه الناس فممن قال فيه الآبيوردي من قصيدة مطلعها‏:‏ وفتحت أنطاكية الروم التي نشرت معاقلها على الإسكندر وطئت مناكبها جيادك فانثنت تلقي أجنتها بنات الأصفر وهي طويلة‏.‏

  ذكر قتل شرف الدولة وملك أخيه إبراهيم

قد تقدم ذكر ملك سليمان بن قتلمش مدينة أنطاكية فلما أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمله إليه الفردوس من المال ويخوفه معصية السلطان فأجابه‏:‏ أما طاعة السلطان فهي شعاري ودثاري والخطبة له والسكة في بلادي وقد كاتبته بما فتح الله على يدي بسعادته من هذا البلد وأعمال الكفار‏.‏

وأما المال الذي كان يحمله صاحب أنطاكية قبلي فهو كان كافرًا وكان يحمل جزية رأسه وأصحابه وأنا بحمد الله مؤمن ولا أحمل شيئًا‏.‏

فنهب شرف الدولة بلد أنطاكية فنهب سليمان أيضًا بلد حلب فلقيه أهل السواد يشكون إليه نهب عسكره فقال‏:‏ أنا كنت أشد كراهية لما يجري ولكن صاحبكم أحوجني إلى ما فعلت ولم تجر عادتي بنهب ثم إن شرف الدولة جمع الجموع من العرب والتركمان وكان ممن معه جبق أمير التركمان في أصحابه وسار إلى أنطاكية ليحصرها‏.‏

فلما سمع سليمان الخبر جمع عساكره وسار إليه فالتقيا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف من أعمال أنطاكية واقتتلوا فمال تركمان جبق إلى سليمان فانهزمت العرب تبعهم شرف الدولة منهزمًا فقتل بعد أن صبر وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب وكان قتله يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين و ذكرته هاهنا لتتبع الحادثة بعضها بعضًا‏.‏

وكان أحول وكان قد ملك من السندية التي على نهر عيسى إلى منبج من الشام وما والاها من البلاد وكان في يده ديار ربيعة ومضر من أرض الجزيرة والموصل وحلب وما كان لأبيه وعمه قرواش وكان عادلًا حسن السيرة والأمن في بلاده عام والرخص شامل وكان يسوس بلاده سياسة عظيمة بحيث يسير الراكب والراكبان فلا يخافان شيئًا‏.‏

وكان له في كل بلد وقرية عامل وقاض وصاحب خبر بحيث لا يتعدى أحد على أحد‏.‏

ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس فأخرجوه وملكوه أمرهم وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث أنه لم يمكنه المشي والحركة لما أخرج ولما قتل شرف الدولة سار سليمان بن قتلمش إلى حلب فحصرها مستهل ربيع الأول سنة ثمان وسبعين فأقام

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في صفر انقض كوكب من المشرق إلى المغرب كان حجمه كالقمر وضوءه كضوئه وسار مدى بعيدًا على مهل وتؤدة في نحو ساعة ولم يكن له شبيه من الكواكب‏.‏

وفيها ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في الخامس والعشرين من رجب بمدينة سنجار من أرض الجزيرة مقارب الموصل بينهما يومان عند نزول السلطان بها وسماه أحمد وإنما قيل له سنجر باسم المدينة التي ولد فيها وأمه أم ولد‏.‏

و في هذه السنة في جمادى الأولى توفي الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ الفقيه الشافعي صاحب الشامل والكامل وكفاية المسائل وغيرها من التصانيف بعد أن أضر عدة سنين وكان مولده سنة أربعمائة والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي البغداذي المعروف بابن البقال وهو من شيوخ أصحاب الشافعي وكان إليه القضاء بباب الأزج وحج لما انقطع الحج على سبيل التجريد وإسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم أبو القاسم الإسماعيلي الجرجاني ومولده سنة أربع وأربعمائة وكان إمامًا فقيهًا شافعيًا محدثًا أدبيًا وداره مجمع العلماء‏.‏

  ذكر استيلاء الفرنج على مدينة طليطلة

في هذه السنة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة طليطلة من بلاد الأندلس وأخذوها من المسلمين وهي من أكبر البلاد وأحصنها‏.‏

وسبب ذلك أن الأذفونش ملك الفرنج بالأندلس كان قد قوي شأنه وعظم ملكه وكثرت عساكره مذ تفرقت بلاد الأندلس وصار كل بلد بيد ملك فصاروا مثل ملوك الطوائف فحينئذ طمع الفرنج فيهم وأخذوا كثيرًا من ثغورهم‏.‏

وكان قد خدم قبل ذلك صاحبها القادر بالله بن المأمون بن يحيى بن ذي النون وعرف من أين يؤتى البلد وكيف الطريق إلى ملكه‏.‏

فلما كان الآن جمع الأذفونش عساكره وسار إلى مدينة طليطلة فحصرها سبع سنين وأخذها من القادر فازداد قوة إلى قوته‏.‏

وكان المعتمد على الله أبو عبد الله محمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس من المسلمين وكان يملك أكثر البلاد مثل‏:‏ قرطبة وإشبيلية وكان يؤدي إلى الأذفونش ضريبة كل سنة‏.‏

فلما ملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة على عادته فردها عليه ولم يقبلها منه فأرسل إليه يتهدده ويتوعده أنه يسير إلى مدينة قرطبة ويتملكها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون التي في الجبل ويبقي السهل للمسلمين وكان الرسول في جمع كثير كانوا خمسمائة فارس فأنزله محمد بن عباد وفرق أصحابه على قواد عسكره ثم أمر كل من عنده منهم رجل أن يقتله وأحضر الرسول وصفعه حتى خرجت عيناه وسلم من الجماعة ثلاثة نفر فعادوا إلى الأذفونش فأخبروه الخبر وكان متوجهًا إلى قرطبة ليحاصرها فلما بلغه الخبر عاد إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار ورحل المعتمد إلى إشبيلية‏.‏

  ذكر استيلاء ابن جهير على آمد

في المحرم من هذه السنة ملك ابن جهير مدينة آمد‏.‏

وسبب ذلك أن فخر الدولة بن جهير كان قد أنفذ إليها ولده زعيم الرؤساء أبا القاسم ومعه جناح الدولة المعروف بالمقدم السالار وأرادوا قلع كرومها وبساتينها ولم يطمع مع ذلك في فتحها لحصانتها فعم أهلها الجوع وتعذرت الأقوات وكادوا يهلكون وهم صابرون على الحصار غير مكترثين له‏.‏

فاتفق أن بعض الجند نزل من السور لحاجة لهم وتركوا أسلحتهم مكانها فصعد إلى ذلك المكان عدد من العامة تقدمهم رجلمن السواد يعرف بأبي الحسن فلبس السلاح ووقف على ذلك المكان ونادى بشعار السلطان وفعل من معه كفعله وطلبوا زعيم الرؤساء فأتاهم وملك البلد واتفق أهل المدينة على نهب بيوت النصارى لما كانوا يلقون من نواب بني مروان من الجور والحكم وكان أكثرهم نصارى فانتقموا منهم‏.‏

  ذكر ملكه أيضًا ميافارقين

و في هذه السنة أيضًا في سادس جمادى الآخرة ملك فخر الدولة ميافارقين وكان مقيمًا على حصارها فوصل إليه سعد الدولة كوهرائين في عسكره نجدة له فجد في القتال فسقط من سورها قطعة فلما رأى أهلها ذلك نادوا بشعار ملكشاه وسلموا البلد إلى فخر الدولة وأخذ جميع ما استولى عليه من أموال بني مروان وأنفذه إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء فانحدر هو وكوهرائين إلى بغداد وسار زعيم الرؤساء منها إلى أصبهان فوصلها في شوال وأوصل ما معه إلى السلطان‏.‏

  ذكر ملك جزيرة ابن عمر

في هذه السنة أرسل فخر الدولة جيشًا إلى جزيرة ابن عمر وهي لبني مروان أيضًا فحصروها فثار أهل بيت من أهلها يقال لهم بنو وهبان وهم من أعيان أهلها وقصدوا بابًا للبلد صغيرًا يقال له باب البويبة لا يسلكه إلا الرجالة لأنه يصعد إليه من ظاهر البلد بدرج فكسروه وأدخلوا العسكر فملكه وانقرضت دولة بني مروان فسبحان من لا يزول ملكه‏.‏

وهؤلاء بنو وهبان إلى يومنا هذا كلما جاء إلى الجزيرة من يحصرها يخرجون من البلد ولم يبق منهم من له شوكة ولا منزلة يفعل بها شيئًا وإنما بتلك الحركة يؤخذون إلى الآن‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول صار أمير الجيوش في عساكر مصر إلى الشام فحصر دمشق وبها صاحبها تاج الدولة تتش فضيق عليه وقاتله فلم يظفر منها بشيء فرحل عنها عائدًا إلى مصر‏.‏

وفيها كانت الفتنة بين أهل الكرخ وسائر المحال من بغداد وأحرقوا من نهر الدجاج درب الآجر وما قاربه وأرسل الوزير أبو شجاع جماعة من الجند ونهاهم عن سفك الدماء تحرجًا من الإثم فلم يمكنهم تلافي الخطب فعظم‏.‏

وفيها كانت زلزلة شديدة بخوزستان وفارس وكان أشدها بأرجان فسقطت الدور وهلك تحتها خلق كثير‏.‏

وفيها في ربيع الأول هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء وكثر الرعد والبرق وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير وكانت النيران تضطرم في أطراف السماء وكان أكثرها بالعراق وبلاد الموصل فألقت النخيل والأشجار وسقط معها صواعق في كثير من البلاد حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت ثم انجلى ذلك نصف الليل‏.‏

وفيها في ربيع الآخر توفي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة وهو الإمام المشهور في الفقه والأصولين وغيرهما من العلوم وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري وغيره‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علي المتكلم كان أحد رؤساء المعتزلة وأئمتهم ولزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد وأخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وعبد الجبار الهمذاني القاضي ومن جملة تلاميذه ابن برهان وهو أكبر منه‏.‏

و في هذه السنة توفي القاضي أبو الحسن هبة الله بن محمد بن السيبي قاضي الحريم بنهر معلى ومولده سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وكان يذاكر الإمام المقتدي بأمر الله وولي ابنه أبو الفرج عبد الوهاب بين يدي قاضي القضاة ابن الدامغاني‏.‏

وفيها في جمادى الأولى توفي أبو العز بن صدقة وزير شرف الدولة ببغداد وكان قد قبض عليه شرف الدولة وسجنه بالرحبة فهرب منها إلى بغداد فمات بعد وصوله إلى مأمنه بأربعة أشهرر وكان كريمًا متواضعًا لم تغيره الولاية عن إخوانه‏.‏

وفيها في رجب توفي قاضي القضاة أبو عبد الله بن الدامغاني ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ودخل بغداد سنة تسع عشرة وأربعمائة وكان قد صحب القاضي أبا العلاء بن صاعد وحضر ببغداد مجلس أبي الحسين القدوري وولي قضاء القضاة بعده القاضي أبو بكر بن المظفر بن بكران الشامي وهو من أكبر أصحاب القاضي أبي الطيب الطبري‏.‏

وفيها توفي عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي مدرس النظامية وهو من أصحاب القاضي حسين المروروذي وتمم كتاب الإبانة‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة

  ذكر قتل سليمان بن قتلمش

لما قتل سليمان بن قتلمش شرف الدولة مسلم بن قريش على ما ذكرناه أرسل إلى ابن الحتيتي العباسي مقدم أهل حلب يطلب منه تسليمها إليه فأنفذ إليه واستمهله إلى أن يكابت السلطان ملكشاه وأرسل ابن الحتيتي إلى تتش صاحب دمشق يعده أن يسلم إليه حلب فسار تتش طالبًا لحلب فعلم سليمان بذلك فسار نحوه مجدًا فوصل إلى تتش وقت السحر على غير تعبئة فلم يعلم به حتى قرب منه فعبأ أصحابه‏.‏

وكان الأمير أرتق بن أكسب مع تتش وكان منصورًا لم يشهد حربًا إلا وكان الظفر له وقد ذكرنا فيما تقدم حضوره مع ابن جهير على آمد وإطلاقه شرف الدولة من آمد فلما فعل ذلك خاف أن ينهي ابن جهير ذلك إلى السلطان ففارق خدمته ولحق بتاج الدولة تتش فأقطعه البيت المقدس وحضر معه هذه الحرب فأبلى فيها بلاء حسنًا وحرض العرب على القتال فانهزم أصحاب سليمان وثبت وهو في القلب فلما رأى انهزام عساكره أخرج سكينًا معه فقتل نفسه وقيل بل قتل في المعركة واستولى تتش على عسكره‏.‏

وكان سليمان بن قتلمش في السنة الماضية في صفر قد أنفذ جثة شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوفة في إزار وطلب من أهلها أن يسلموها إليه‏.‏

و في هذه السنة في صفر أرسل تتش جثة سليمان في إزار ليسلموها إليه فأجابه ابن الحتيتي أنه يكاتب السلطان ومهما أمره فعل فحصر تتش البلد وأقام عليه وضيق على أهله‏.‏

وكان ابن الحتيتي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه وسلم برجًا فيها إلى إنسان يعرف بابن الرعوي‏.‏

ثم إن ابن الحتيتي أوحشه بكلام أغلظ له فيه وكان هذا الرجل شديد القوة ورأى ما الناس فيه من الشدة فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش يستدعيه وواعده ليلة يرفع الرجال إلى السورفي الحبال فأتى تتش للميعاد الذي ذكره فأصعد الرجال في الحبال والسلاليم وملك تتش المدينة واستجار ابن الحتيتي بالأمير أرتق فشفع فيه وأما القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش فأقام تتش يحصر القلعة سبعة عشر يومًا فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه فرحل عنها‏.‏

  ذكر ملك السلطان حلب وغيرها

كان ابن الحتيتي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب لما خاف تاج الدولة تتش فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة وجعل على مقدمته الأمير برسق وبوزان وغيرهما من الأمراء وجعل طريقه على الموصل فوصلها في رجب وسار منها فلما وصل إلى حران سلمها إليه ابن الشاطر فأقطعها السلطان لمحمد بن شرف الدولة وسار إلى الرها وهي بيد الروم فحصرها وملكها وكانوا قد اشتروها من ابن عطير وتقدم ذكر ذلك وسار إلى قلعة جعبر فحصرها يومًا وليلة وملكها وقتل من بها من بني قشير وأخذ جعبر من صاحبها وهو شيخ أعمى وولدين له وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطرق ويلجأون إليها‏.‏

ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب فملك في طريقه مدينة منبج فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش وكان قد ملك المدينة كما ذكرناه وسار عنها يسلك البرية ومعه الأمير أرتق فأشار بكبس عسكر السلطان وقال‏:‏ إنهم قد وصلوا وبهم وبدوابهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع ولو فعل لظفر بهم‏.‏

فقال تتش‏:‏ لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله فإنه يعود بالوهن علي أولًا‏.‏

وسار إلى دمشق ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة وسلم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعوضه عنها قلعة جعبر وكان سالم قد امتنع بها أولًا فأمر السلطان أن يرمى إليه رشقًا واحدًا بالسهام فرمى الجيش فكادت الشمس تحتجب لكثرة السهام فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها وسلم السلطان إليه قلعة جعبر فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني صاحب شيزر فدخل في طاعته وسلم ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر فعمرها وأحسن السيرة فيها‏.‏

وأما ابن الحتيتي فإنه كان واثقًا بإحسان السلطان ونظام الملك إليه لأنه استدعاهما فلما ملك السلطان البلد طلب أهله أن يعفيهم من ابن الحتيتي فأجابهم إلى ذلك واستصحبه معه وأرسله إلى ديار بكر فافتقر وتوفي بها على حال شديدة من الفقر وقتل ولده بأنطاكية قتله الفرنج لما ملكوها‏.‏

  ذكر وفاة بهاء الدولة منصور بن مزيد وولاية ابنه صدقة

في هذه السنة في ربيع الأول توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي صاحب الحلة والنيل وغيرهما مما يجاورها ولما سمع نظام الملك خبر وفاته قال‏:‏ مات أجل صاحب عمامة وكان فاضلًا قرأ على علي بن برهان فبرع بذكائه في الذي استفاد منه وله شعر حسن فمنه‏:‏ فإن أنا لم أحمل عظيمًا ولم أقد لهامًا ولم أصبر على فعل معظم ولم أجر الجاني وأمنع حوزه غداة أنادي للفخار وأنتمي فإن كان أودى خدننا ونديمنا أبو مالك فالنائبات تنوب فكل ابن أنثى لا محالة ميت وفي كل حي للمنون نصيب ولو رد حزن أو بكاء لهالك بكيناه ما هبت صبًا وجنوب ولما توفي أرسل الخليفة إلى ولده سيف الدولة صدقة نقيب العلويين أبا الغنائم يعزيه وسار سيف الدولة إلى السلطان ملكشاه فخلع عليه وولاه ما كان لأبيه وأكثر الشعراء مراثي بهاء الدولة‏.‏

  ذكر وقعة الزلاقة بالأندلس وهزيمة الفرنج

قد تقدم ملك الفرنج طليطلة وما فعله المعتمد بن عباد برسول الأذفونش ملك الفرنج وعود المعتمد إلى إشبيلية‏.‏

فلما عاد إليها وسمع مشايخ قرطبة بما جرى ورأوا قوة الفرنج وضعف المسلمين واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض اجتمعوا وقالوا‏:‏ هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج ولم يبق منها إلا القليل وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت‏.‏

وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم فقالوا له‏:‏ ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها وقد رأينا رأيًا نعرضه عليك‏.‏

قال‏:‏ ما هو قالوا‏:‏ نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله‏.‏

قال‏:‏ نخاف إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا كما فعلوا بإفريقية ويتركون الفرنج ويبدأون بكم والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا‏.‏

قالوا له‏:‏ فكاتب أمير المسلمين وارغب إليه ليعبر إلينا ويرسل بعض قواده‏.‏

وقدم عليهم المعتمد بن عباد وهم في ذلك فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه فقال له ابن عباد‏:‏ أنت رسولي إليه في ذلك فامتنع وإنما أراد أن يبريء نفسه من تهمة فألح عليه المعتمد فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فأبلغه الرسالة وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش‏.‏

وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضًا فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية وكان قد جمع عساكره أيضًا وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير‏.‏

وقصده المتطوعة من سائر بلاد الأندلس‏.‏

ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع فرسانه وسار من طليطلة وكتب إلى أمير المسلمين كتابًا كتبه به بعض أدباء المسلمين يغلظ له القول ويصف ما عنده من القوة والعدد والعُدد وبالغ الكاتب في الكتاب‏.‏

فأمر أمير المسلمين أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه وكان كاتبًا مفلقًا فكتب فأجاد فلما قرأه على أمير المسلمين قال‏:‏ هذا كتاب طويل أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون سترًا له‏.‏

فلما عاد الكتاب إلى الأذفونش ارتاع لذلك وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم فازداد استعدادًا فرأى في منامه كأنه راكب فيل وبين يديه طبل صغير وهو ينقر فيه فقص رؤياه على القسيسين فلم يعرفوا تأويلها فأحضر رجلًا مسلمًا عالمًا بتعبير الرؤيا فقصها عليه فاستعفاه من تعبيرها فلم يعفه فقال‏:‏ تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏1‏]‏‏.‏ السورة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏8 ‏:‏10‏]‏‏.‏ ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه‏.‏

فما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته فأحضر ذلك المعبر وقال له‏:‏ بهذا الجيش ألقى إله محمد صاحب كتابكم‏.‏

فانصرف المعبر وقال لبعض المسلمين‏:‏ هذا الملك هالك وكل من معه وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ثلاث مهلكات‏)‏ الحديث وفيه‏:‏ ‏(‏وإعجاب المرء برأيه‏)‏‏.‏ وسار أمير المسلمين والمعتمد بن عباد حتى أتوا أرضًا يقال لها الزلاقة من بلد بطليوس وأتى الأذفونش فنزل موضعًا بينه وبينهم ثمانية عشر ميلًا فقيل لأمير المسلمين‏:‏ إن ابن عباد ربما لم ينصح ولا يبذل نفسه دونك‏.‏

فأرسل إليه أمير المسلمين يأمره أن يكون في المقدمة ففعل ذلك وسار وقد ضرب الأذفونش خيامه في لحف جبل والمعتمد في سفح جبل آخر يتراءون وينزل أمير المسلمين وراء الجبل الذي عنده المعتمد وظن الأذفونش أن عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه‏.‏

وكان الفرنج في خمسين ألفًا فتيقنوا الغلب وأرسل الأذفونش إلى المعتمد في ميقات القتال وقصده الملك فقال‏:‏ غدًا الجمعة وبعده الأحد فيكون اللقاء يوم الاثنين فقد وصلنا على حال تعب واستقر الأمر على هذا وركب ليلة الجمعة سحرًا وصبح بجيشه جيش المعتمد بكرة الجمعة غدرًا وظنًا منه أن ذلك المخيم هو جميع عسكر المسلمين فوقع القتال بينهم فصبر المسلمون فأشرفوا على الهزيمة‏.‏

وكان المعتمد قد أرسل إلى أمير المسلمين يعلمه بمجيء الفرنج للحرب فقال‏:‏ احملوني إلى خيام الفرنج فسار إليها فبينما هم في القتال وصل أمير المسلمين إلى خيام الفرنج فنهبها وقتل من فيها فلما رأى الفرنج ذلك لم يتمالكوا أن انهزموا وأخذهم السيف وتبعهم المعتمد من خلفهم

ولقيهم أمير المسلمين من بين أيديهم ووضع فيهم السيف فلم يفلت منهم أحد ونجا الأذفونش في نفر يسير وجعل المسلمون من رؤوس القتلى كومًا كثيرةً فكانوا يؤذنون عليها إلى أن جيفت فأحرقوها‏.‏

وكانت الوقعة يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين وأصاب المعتمد جراحات في وجهه وظهرت ذلك اليوم شجاعته‏.‏

ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة فارس وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك‏.‏

وعاد ابن عباد إلى إشبيلية ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة الخضراء وعبر إلى سبتة وسار إلى مراكش فأقام بها إلى العام المقبل وعاد إلى الأندلس وحضر معه المعتمد بن عباد في عسكره وعبد الله بن بلكين الصنهاجي صاحب غرناطة في عسكره وساروا حتى نزلوا على ليط وهو حصن منيع بيد الفرنج فحصروه حصرًا شديدًا فلم يقدروا على فتحه فرحلوا عنه بعد مدة ولم يخرج إليهم أحد من الفرنج لما أصابهم في العام الماضي فعاد ابن عباد إلى إشبيلية وعاد أمير المسلمين إلى غرناظة وهي طريقه ومعه عبد الله بن بلكين فغدر به أمير المسلمين وأخذ غرناطة منه وأخرجه منها فرأى في قصوره من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك قبله بالأندلس ومن جملة ما وجده سبحة فيها أربعمائة جوهرة قومت كل جوهر بمائة دينار ومن الجواهر ما له قيمة جليلة إلى غير ذلك من الثياب والعدد وغيرها وأخذ معه عبد الله وأخاه تميمًا ابني بلكين إلى مراكش فكانت غرناطة أول ما ملكه من بلاد الأندلس‏.‏

وقد ذكرنا فيما تقدم سبب دخول صنهاجة إلى الأندلس وعود من عاد منهم إلى المعز بإفريقية وكان آخر من بقي منهم بالأندلس عبد الله هذا وأخذت مدينته ورحل إلى العدوة‏.‏

ولما رجع أمير المسلمين إلى مراكش أطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس وورغة وقلعة مهدي وقال له علماء الأندلس إنه ليس طاعته بواجبة حتى يخطب للخليفة ويأتيه تقليد منه بالبلاد فأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله ببغداد فأتاه الخلع والأعلام والتقليد ولقب بأمير المسلمين وناصر الدين‏.‏